بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المرهوب من عذابه وسطوته ، النافذ أمره في سمائه وأرضه بحكمته ، الذي خلق الخلق بقدرته ، وميّزهم بأحكامه ، وأعزّهم بشريعته ، وأكرمهم بنبيّنا سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، ورضي الله عن شيخنا أبي العباس أحمد بن محمد التجاني ، وعلى خليفته الإمام التماسيني ، وعلى سائر الخلفاء الميامين البررة . أما بعد :
فإنّ الله جلّت قدرته خلق الإنسان من أجل معرفته وعبادته قال تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (1)
ولمّا كان الدين الإسلامي خاتم الأديان السماوية ، لم يبْق صراط موصل إلى الله غيره ، فهو منهاج كامل متكامل ، وبنظرة خاطفة لتعاليمه ، ومن حيث تعلقها بالمكلف ، تتمايز إلى نوعين :
أحكام ظاهر المكلف (المحسوسات) ويمكننا أن نقسمها إلى قسمين :
أوامر : كأمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة ، و الصيام ... .
ونواهي : كَنَهْيِه عن السرقة ، و الرّبا ، والرشوة ، وشرب الخمر .
أحكام تخصّ باطن المكلّف ( المعنوية ) ، ويمكننا تقسيمها أيضا إلى قسمين :
أوامر : كأمره بالإيمان ، والتوبة ، والصبر ، والصدق ...
ونواهي : كَنَهْيِهِ عن الكفر ، والشرك ، والنفاق ، والرياء ، والزّور ، والبهتان ... .
و لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو القائم على تطبيق هذه التعاليم بِشِقَّيْها الظاهر والباطن ، أوامر ونواهي . قال تعالى : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . (2) وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى خلَفَهُ في هذا المقام صحابتُه الكرام ، فاضطروا إلى تنصيب خليفة يهيمن على وحدتهم ، ويأخذ بنواصيهم إلى الخير و الفلاح .
وبدأت العلوم تتمايز في عهد الخلفاء ، و ظهر أهل الإختصاصات ، فمنهم مَنْ اهتمّ بالقرآن ، وأحكامه ، وعلومه ، وتفاسيره ، وأسباب النزول ، والقراءات . واهتمّت طائفة أخرى بالحديث النبوي الشريف ، وأحكامه . بينما نَجِدُ من اهتم بالأحكام الشرعية التي تخص ظاهر المكلف ، وسمُّوهُم الفقهاء . واهْتَمّتْ طائفة بعلاقة الإنسان بربه فألّفَت في العقائد ، فبرز علمُ الكلام . و توجّهتْ طائفة لدراسة الأحكام الشرعية الخاصة بباطن الإنسان ـ أو فَلْنَقُلْ قلبه ـ أوامر ونواهي ، فسَمُّوهُم الصّوفية ، وعِلْمُهُم كل عِلمٍ يدعو إلى انسلاخ العبد من حظوظه وشهواته ، وتَبَرِّيه مِنْ مشاهدة حَوْلِه وقوّته ، ومباعدته عن كلّ ما يُفضي لجلب الشقاء لنفسه دنيا و أخرى ، والعلم بكل ما يدعو إلى وقوف العبد مع الله في صميم التوحيد ، وخروجه عن الغير والغيرية علما وعملا . فظهر لك أن لهذه الطائفة مزية ، وأنّ لها الرّيادة والهيمنة ، لأن موضوعها الإنسان من حيث هو مخلوق لأداء رسالة معينة متمثلة في معرفة الله ، وعبادته ، والتقرّب إليه بكل ما في الجهد و الوسع . و للعلم ـ أيها السعيد ـ أن هذا العلم ـ تزكية النفس ـ فرضُ عينٍ على كل مسلم يخشى على نفسه هوْل المعاد ، لأن عذاب النار يوم القيامة مترَتَّب على عدم الإمتثال لأوامر الله ، قال تعالى : و نفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكاها وقد خاب من دسّاها . (3)
ولا يخلو إنسان من أمراض قلبية ، وعِلَلٍ خَفِيّة لا يستطيع أن يدركها بنفسه ، كالرياء ، والنفاق ، والغرور ، والحسد ، بل قد يعتقد أنه أكمل الخلق وأقوَمهم دينا ، وهذا هو الجهل المركب ، قال تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . (4)
لأجل هذا كله كانت الطرق الصوفية مدارس تربية وتوجيه وإرشاد ، ظهرت بأمر الحضرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام تدعو إلى تقييد الغافلين بالأذكار الشرعية تقييدا مشروطا بمتابعة الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا .
وهنا آن الأوان للكلام عن الطريق التجانية :
فأصلها كَشْفٌ محمودٌ حُظِيَ به أستاذها ، له نظائر عند صالحي الأمم . و النتيجة عبادة شرعية ثابتة بالكتاب و السنة ، و مظهرها الطبيعي الممتزج بالشريعة التحذير من المقاصد التي تُبَاعد عن مقصد الشكر ، وتؤدِّي إلى تَتَبّع الغايات والأغراض من الأسرار .